فصل: ذكر فتح مصر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.سنة ثماني عشرة:

.ذكر القحط وعام الرمادة:

في سنة ثماني عشرة أصاب الناس مجاعة شديدة وجدب وقحط، وهو عام الرمادة، وكانت الريح تسفي تراباً كالرماد فسمي عام الرمادة، واشتد الجوع حتى جعلت الوحش تأوي إلى الإنس، وحتى جعل الرجل يذبح الشاة فيعافيها من قيحها. وفيه أيضاً كان طاعون عمواس، وفيه ورد كتاب أبي عبيدة على عمر يذكر فيه أن نفراً من المسلمين أصابوا الشراب، منهم: ضرار وأبو جندل، فسألناهم فتابوا، وقال له: ادعهم على رؤوس الناس وسلهم أحلالٌ الخمر أم حرام، فإن قالوا: حرام، فاجلدهم ثمانين ثمانين، وإن قالوا: حلال، فاضرب أعناقهم. فسألهم فقالوا: بل حرامٌ، فجلدهم، وندموا على لجاجتهم، وقال: ليحدثن فيكم يا أهل الشام حدث، فحدث عام الرمادة وأقسم عمر أن لا يذوق سمناً ولا لبناً ولا لحماً حتى يحيا الناس. فقدمت السوق عكة سمن ووطب من لبن، فاشتراها غلام لعمر بأربعين درهماً ثم أتى عمر فقال: يا أمير المؤمنين قد أبر الله يمينك وعظم أجرك، قدم السوق وطب من لبن وعكة من سمن ابتعتهما بأربعين درهماً. فقال عمر: أغليت بهما فتصدق بهما فإني أكره أن آكل إسرافاً. وقال: كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يصبني ما أصابهم! وكتب عمر إلى أمراء الأمصار يستغيثهم لأهل المدينة ومن حولها ويستمدهم، فكان أول من قدم عليه أبو عبيدة بن الجراح بأربعة آلاف راحلة من طعام، فولاه قسمتها فيمن حول المدينة، فقسمها وانصرف إلى عمله، وتتابع الناس واستغنى أهل الحجاز، وأصلح عمرو بن العاص بحر القلزم وأرسل فيه الطعام إلى المدينة، فصار الطعام بالمدينة كسعر مصر، ولم ير أهل المدينة بعد الرمادة مثلها حتى حبس عنهم البحر مع مقتل عثمان، فذلوا وتقاصروا، وكان الناس بذلك وعمر كالمحصور عن أهل الأمصار.
فقال أهل بيت من مزينة لصاحبهم، وهو بلال بن الحارث: قد هلكنا فاذبح لنا شاة. قال: ليس فيهن شيء. فلم يزالوا به حتى ذبح فسلخ عن عظم أحمر، فنادى: يا محمداه! فأري في المنام أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أتاه فقال: أبشر بالحياة، إيت عمر فأقرئه مني السلام وقل له إني عهدتك وأنت وفي العهد شديد العقد، فالكيس الكيس يا عمر! فجاء حتى أتى باب عمر فقال لغلامه: استأذن لرسول رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأتى عمر فأخبره، ففزع وقال: رأيت به مساً؟ قال: لا، فأدخله وأخبره الخبر، فخرج فنادى في الناس وصعد المنبر فقال: نشدتكم الله الذي هداكم هل رأيتم مني شيئاً تكرهون؟ قالوا: اللهم لا، ولم ذاك؟ فأخبرهم، ففطنوا ولم يفطن عمر، فقالوا: إنما استبطأك في الاستسقاء فاستسق بنا. فنادى في الناس، وخرج معه العباس ماشياً فخطب وأوجز وصلى ثم جثا لركبتيه وقال: اللهم عجزت عنا أنصارنا وعجز عنا حولنا وقوتنا وعجزت عنا أنفسنا ولا حول ولا قوة إلا بك، اللهم فاسقنا وأحي العباد والبلاد! وأخذ بيد العباس بن عبد المطلب عم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإن دموع العباس لتتحادر على لحيته فقال: اللهم إنا نتقرب إليك بعم نبيك، صلى الله عليه وسلم، وبقية آبائه وكبر رجاله فإنك تقول وقولك الحق: {وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة} فحفظتهما بصلاح آبائهما، فاحفظ اللهم نبيك، صلى الله عليه وسلم، في عمه، فقد دلونا به إليك مستشفعين مستغفرين. ثم أقبل على الناس فقال: {استغفروا ربكم إنه كان غفاراً} نوح:!رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
وكان العباس قد طال عمره وعيناه تذرفان ولحيته تجول على صدره وهو يقول: اللهم أنت الراعي فلا تهمل الضالة ولا تدع الكسير بدار مضيعةٍ، فقد صرخ الصغير ورق الكبير وارتفعت الشكوى، وأنت تعلم السر وأخفى، اللهم فأغنهم بغناك قبل أن يقطنوا فيهلكوا فإنه لا ييأس إلا القوم الكافرون. فنشأت طريرة من سحاب، فقال الناس: ترون ترون! ثم التأمت ومشت فيها ريح ثم هدأت ودرت، فوالله ما تروحوا حتى اعتنقوا الجدار وقلصوا المآزر، فطفق الناس بالعباس يمسحون أركانه ويقولون: هنيئاً لك ساقي الحرمين! فقال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب:
بعمي سقى الله الحجاز وأهله ** عشية يستسقي بشيبته عمر

توجه بالعباس في الجدب راغباً ** إليه فما إن رام حتى أتى المطر

ومنا رسول الله فينا تراثه ** فهل فوق هذا للمفاخر مفتخر

.ذكر طاعون عمواس:

في هذه السنة كان طاعون عمواس بالشام، فمات فيه أبو عبيدة بن الجراح، وهو أمير الناس، ومعاذ بن جبل، ويزيد بن أبي سفيان، والحارث ابن هشام، وسهيل بن عمرو، وعتبة بن سهيل، وعامر بن غيلان الثقفي، مات وأبوه حي، وتفانى الناس منه.
قال طارق بن شهاب: أتينا أبا موسى في داره بالكوفة نتحدث عنده فقال: لا عليكم أن تحفوا فقد أصيب في الدار إنسان بهذا السقم، ولا عليكم أن تنزهوا من هذه القرية فتخرجوا في فسح بلادكم ونزهها حتى يرفع هذا الوباء، وسأخبركم بما يكره ويتقى، من ذلك أن يظن من خرج أنه لو أقام مات، ويظن من أقام فأصابه لو خرج لم يصبه، فإذا لم يظن المسلم هذا فلا عليه أن يخرج؛ إني كنت مع أبي عبيدة بالشام عام طاعون عمواس، فلما اشتعل الوجع وبلغ ذلك عمر كتب إلى أبي عبيدة ليستخرجه منه: أن سلام عيك، أما بعد فقد عرضت لي إليك حاجة أريد أن أشافهك فيها، فعزمت عليك إذا أنت نظرت في كتابي هذا ألا تضعه من يدك حتى تقبل إلي. فعرف أبو عبيدة ما أراد فكتب إليه: يا أمير المؤمنين، قد عرفت حاجتك إلي وإني في جند من المسلمين لا أجد بنفسي رغبةً عنهم، فلست أريد فراقهم حتى يقضي الله في وفيهم أمره وقضاءه، فحللني من عزيمتك. فلما قرأ عمر الكتاب بكى، فقال الناس: يا أمير المؤمنين، أمات أبو عبيدة؟ فقال: لا، وكأن قد.
وكتب إليه عمر ليرفعن بالمسلمين من تلك الأرض، فدعا أبا موسى فقال له: ارتد للمسلمين منزلاً. قال: فرجعت إلى منزلي لأرتحل فوجدت صاحبتي قد أصيبت. فرجعت إليه فقلت له: والله لقد كان في أهلي حدثٌ. فقال: لعل صاحبتك أصيبت؟ قلت: نعم. قال: فأمر ببعيره فرحل له. فلما وضع رجله في غرزه طعن، فقال: والله لقد أصبت! ثم سار بالناس حتى نزل الجابية، وكان أبو عبيدة قد قام في الناس خطيباً فقال: يا أيها الناس، إن هذا الوجع رحمة ربكم ودعوة نبيكم وموت الصالحين قبلكم، وإن أبا عبيدة سأل الله أن يقسم له منه حظه فطعن فمات. واستخلف على الناس معاذ بن جبل، فقام خطيباً بعده فقال: أيها الناس، إن هذا الوجع رحمة ربكم ودعوة نبيكم وموت الصالحين قبلكم، وإن معاذاً يسأل الله أن يقسم لآل معاذ حظهم. فطعن ابنه عبد الرحمن فمات، ثم قام فدعا به لنفسه فطعن في راحته فلقد كان يقبلها ثم يقول: ما أحب أن لي بما فيك شيئاً من الدنيا. فلما مات استخلف على الناس عمرو بن العاص، فخرج بالناس إلى الجبال، ورفعه الله عنهم، فلم يكره عمر ذلك من عمرو.
وقد قيل: إن عمر بن الخطاب قدم الشام، فلما كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد فيهم أبو عبيدة ابن الجراح، فأخبروه بالوباء وشدته، وكان معه المهاجرون والأنصار، خرج غازياً، فجمع المهاجرين الأولين والأنصار فاستشارهم، فاختلفوا عليه، فمنهم القائل: خرجت لوجه الله فلا يصدك عنه هذا، ومنهم القائل: إنه بلاء وفناء فلا نرى أن تقدم عليه. فقال لهم: قوموا، ثم أحضر مهاجرة الفتح من قريش فاستشارهم فلم يختلفوا عليه وأشاروا بالعود، فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر. فقال أبو عبيدة: أفراراً من قدر الله؟ فقال: نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل فهبطت وادياً له عدوتان إحداهما مخصبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ فسمع بهم عبد الرحمن بن عوف فقال: إن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: {إذا سمعتم بهذا الوباء ببلد فلا تقدموا عليه وإذا وقع ببلد وأنتم به فلا تخرجوا فراراً منه}. فانصرف عمر بالناس إلى المدينة.
وهذه الرواية أصح، فإن البخاري ومسلماً أخرجاها في صحيحيهما، ولأن أبا موسى كان هذه السنة بالبصرة ولم يكن بالشام، لكن هكذا ذكره وإنما أوردناه لننبه عليه.
عمواس بفتح العين المهملة والميم والواو، وبعد الألف سين مهملة. وسرع بفتح السين المهملة، وسكون الراء المهملة، وآخره غين معجمة.
ومعنى قوله: دعوة نبيكم، حين جاءه جبرائيل فقال: «فناء أمتك بالطعن أو الطاعون». فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «فبالطاعون».
ولما هلك يزيد بن أبي سفيان استعمل عمر أخاه معاوية بن أبي سفيان على دمشق وخراجها، واستعمل شرحبيل بن حسنة على جند الأردن وخراجها. وأصاب الناس من الموت ما لم يروا مثله قط، وطمع له العدو في المسلمين لطول مكثه، مكث شهوراً، وأصاب الناس بالبصرة مثله، وكان عدة من مات في طاعون عمواس خمسة وعشرين ألفاً.

.ذكر قدوم عمر إلى الشام بعد الطاعون:

لما هلك الناس في الطاعون كتب أمراء الأجناد إلى عمر بما في أيديهم من المواريث، فجمع الناس واستشارهم وقال لهم: قد بدا لي أن أطوف على المسلمين في بلدانهم لأنظر في آثارهم، فأشيروا علي، وفي القوم كعب الأحبار، وفي تلك السنة أسلم، فقال كعب: يا أمير المؤمنين، بأيها تريد أن تبدأ؟ قال: بالعراق. قال: فلا تفعل فإن الشر عشرة أجزاء، تسعة منها بالمشرق وجزء بالمغرب، والخير عشرة أجزاء، تسعة بالمغرب وجزء بالمشرق، وبها قرن الشيطان وكل داء عضال. فقال علي: يا أمير المؤمنين، إن الكوفة للهجرة بعد الهجرة، وإنها لقبة الإسلام، ليأتينها يوم لا يبقى مسلم إلا وحن إليها لينتصرن بأهلها كما انتصر بالحجارة من قوم لوط. فقال عمر: إن مواريث أهل عمواس قد ضاعت، أبدأ بالشام فأقسم المواريث وأقيم لهم ما في نفسي ثم أرجع فأتقلب في البلاد وأبدي إليهم أمري.
فسار عن المدينة واستخلف عليها علي بن أبي طالب واتخذ أيلة طريقاً، فلما دنا منها ركب بعيره وعلى رحله فرو مقلوب وأعطى غلامه مركبه، فلما تلقاه الناس قالوا: أين أمير المؤمنين؟ قال: أمامكم، يعني نفسه، فساروا أمامهم، وانتهى هو إلى أيلة فنزلها، وقيل للمتلقين: قد دخل أمير المؤمنين إليها ونزلها، فرجعوا إليه. وأعطى عمر الأسقف بها قميصه، وقد تخرق ظهره، ليغسله ويرقعه، ففعل، وأخذه ولبسه، وخاط له الأسقف قميصاً غيره فلم يأخذه. فلما قدم الشام قسم الأرزاق، وسمى الشواتي والصوائف، وسد فروج الشام ومسالحها، وأخذ يدورها، واستعمل عبد الله بن قيس على السواحل من كل كورة، واستعمل معاوية، وعزل شرحبيل بن حسنة وقام يعذره في الناس وقال: إني لم أعزله عن سخطة ولكني أريد رجلاً أقوى من رجل. واستعمل عمرو بن عتبة على الأهراء. وقسم مواريث أهل عمواس، فورث بعض الورثة من بعض، وأخرجها إلى الأحياء من ورثة كل منهم. وخرج الحارث بن هشام في سبعين من أهل بيته فلم يرجع منهم إلا أربعة. ورجع عمر إلى المدينة في ذي القعدة.
ولما كان بالشام وحضرت الصلاة قال له الناس: لو أمرت بلالاً فأذن، فأمره فأذن، فما بقي أحد أدرك النبي، صلى الله عليه وسلم، وبلال يؤذن إلا وبكى حتى بل لحيته، وعمر أشدهم بكاء، وبكى من لم يدركه ببكائهم ولذكرهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
قال الواقدي: إن الرهاء وحران والرقة فتحت هذه السنة على يد عياض ابن غنم، وإن عين الوردة، وهي رأس عين، فتحت فيها على يد عمير ابن سعد، وقد تقدم شرح فتحها.
في هذه السنة في ذي الحجة حول عمر المقام إلى موضعه اليوم، وكأن ملصقاً بالبيت. وفيها استقضى عمر شريح بن الحارث الكندي على الكوفة، وعلى البصرة كعب بن سور الأزدي. وكانت الولاة على الأمصار الولاة الذين كانوا عليها في السنة قبلها. وحج بالناس في هذه السنة عمر بن الخطاب. ثم دخلت:

.سنة تسع عشرة:

قال بعضهم: إن فتح جلولاء والمدائن كان في هذه السنة على يد سعد، وكذلك فتح الجزيرة، وقد تقدم ذكر فتح الجميع والخلاف فيه. وقيل: فيها كان فتح قيسارية على يد معاوية، وقيل: سنة عشرين، وقد تقدم أيضاً ذكر ذلك سنة ست عشرة.
وفي هذه السنة سالت حرة ليلى، وهي قريب المدينة، ناراً، فأمر عمر بالصدقة، فتصدق الناس فانطفأت.
وحج بالناس هذه السنة عمر. وكان عماله فيها من تقدم ذكرهم. وفيها قتل صفوان بن المعطل السلمي، وقيل: بل مات سنة ستين آخر خلافة معاوية. وفيها مات أبي بن كعب، وقيل: بل مات سنة عشرين، وقيل: اثنتين وعشرين، وقيل: اثنتين وثلاثين، والله أعلم. ثم دخلت:

.سنة عشرين:

.ذكر فتح مصر:

قيل: في هذه السنة فتحت مصر في قول بعضهم على يد عمرو بن العاص والإسكندرية أيضاً، وقيل: فتحت الإسكندرية سنة خمس وعشرين، وقيل: فتحت مصر سنة ست عشرة في ربيع الأول، وبالجملة فينبغي أن يكون فتحها قبل عام الرمادة لأن عمرو بن العاص حمل الطعام في بحر القلزم من مصر إلى المدينة، والله أعلم، وقيل غير ذلك.
وأما فتحها فإنه لما فتح عمر بيت المقدس وأقام به أياماً وأمضى عمرو ابن العاص إلى مصر وأتبعه الزبير بن العوام مدداً له فأخذ المسلمون باب اليون وساروا إلى مصر فلقيهم هناك أبو مريم، جاثليق مصر، ومعه الأسقف بعثه المقوقس لمنع بلادهم، فلما نزل بهم عمرو قاتلوه، فأرسل إليهم: لا تعجلونا حتى نعذر إليكم وترون رأيكم بعد، وليبرز إلي أبو مريم وأبو مريام، فكفوا، وخرجا إليه، فدعاهما إلى الإسلام أو الجزية، وأخبرهما بوصية النبي، صلى الله عليه وسلم، بأهل مصر بسبب هاجر أم إسماعيل، عليه السلام، فقالوا: قرابة بعيدة لا يصل مثلها إلا الأنبياء، آمنا حتى نرجع إليك. فقال عمرو: مثلي لا يخدع ولكني أؤجلكما ثلاثاً لتنظرا. فقالا: زدنا، فزادهما يوماً، فرجعا إلى المقوقس فهم. فأبى أرطبون أن يجيبهما وأمر بمناهدتهم، فقال لأهل مصر: أما نحن فسنجهد أن ندفع عنكم. فلم يفجأ عمراً إلا البيات وهو على عدة، فلقوه فقتل أرطبون وكثير ممن معه وانهزم الباقون، وسار عمرو والزبير إلى عين الشمس وبها جمعهم، وبعث إلى فرما أبرهة بن الصباح، وبعث عوف بن مالك إلى الإسكندرية، فنزل عليها. قيل: وكان الإسكندر وفرما أخوين، ونزل عمرو بعين الشمس، فقال أهل مصر لملكهم: ما تريد إلى قتال قوم هزموا كسرى وقيصر وغلبوهم على بلادهم! فلا تعرض لهم ولا تعرضنا لهم- وذلك في اليوم الرابع- فأبى وناهدوهم وقاتلوهم.
فلما التقى المسلمون والمقوقس بعين الشمس واقتتلوا جال المسلمون، فذمرهم عمرو، فقال له رجل من اليمن: إنا لم نخلق من حديد. فقال له عمرو: اسكت، إنما أنت كلب. قال: فأنت أمير الكلاب. فنادى عمرو بأصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، فأجابوه، فقال: تقدموا فبكم ينصر الله المسلمين، فتقدموا وفيهم أبو بردة وأبو برزة وتبعهم الناس، وفتح الله على المسلمين وظفروا وهزموا المشركين، فارتقى الزبير بن العوام سورها، فلما أحسوا فتحوا الباب لعمرو وخرجوا إليه مصالحين، فقبل منهم، ونزل الزبير عليهم عنوةً حتى خرج على عمرو من الباب معهم، فاعتقدوا صلحاً بعد ما أشرفوا على الهلكة، فأجروا ما أخذوا عنوةً مجرى الصلح فصاروا ذمة، وأجروا من دخل في صلحهم من الروم والنوبة مجرى أهل مصر، ومن اختار الذهاب فهو آمنٌ حتى يبلغ مأمنه.
واجتمعت خيول المسلمين بمصر وبنوا الفسطاط ونزلوه، وجاء أبو مريم وأبو مريام إلى عمرو وطلبا منه السبايا التي أصيبت بعد المعركة، فطردهما، فقالا: كل شيء أصبتموه منذ فارقناكم إلى أن رجعنا إليكم ففي ذمة. فقال عمرو لهما: أتغيرون علينا وتكونون في ذمة؟ قالا: نعم. فقسم عمرو ابنالعاص السبي على الناس وتفرق في بلدان العرب. وبعث بالأخماس إلى عمر بن الخطاب ومعها وفد، فأخبروا عمر بن الخطاب بحالهم كله وبما قال أبو مريم، فرد عمر عليهم سبي من لم يقاتلهم في تلك الأيام الأربعة وترك سبي من قاتلهم فردوهم.
وحضرت القبط باب عمرو، وبلغ عمراً أنهم يقولون: ما أرث العرب وأهون عليهم أنفسهم! ما رأينا مثلنا دان لهم. فخاف أن يطمعهم ذلك فأمر بجزر فطبخت ودعا أمراء الأجناد فأعلموا أصحابهم فحضروا عنده وأكلوا أكلاً عربياً، انتشلوا وحسوا وهم في العباء بغير سلاح، فازداد طمعهم، وأمر المسلمين أن يحضروا الغد في ثياب أهل مصر وأحذيتهم، ففعلوا، وأذن لأهل مصر فرأوا شيئاً غير ما رأوا بالأمس، وقام عليهم القوام بألوان مصر فأكلوا أكل أهل مصر، فارتاب القبط، وبعث أيضاً إلى المسلمين: تسلحوا للعرض غداً، وغدا على العرض، وأذن لهم فعرضهم عليهم وقال لهم: علمت حالم حين رأيتم اقتصاد العرب فخشيت أن تهلكوا فأحببت أن أريكم حالهم في أرضهم كيف كانت، ثم حالهم في أرضكم، ثم حالهم في الحرب، فقد رأيتم ظفرهم بكم وذلك عيشهم وقد كلبوا على بلادكم بما نالوا في اليوم الثاني، فأردت أن تعلموا أن ما رأيتم في اليوم الثالث غير تارك عيش اليوم الثاني وراجعٌ إلى عيش اليوم الأول.
فتفرقوا وهم يقولون: لقد رمتكم العرب برجلهم. وبلغ عمر ذلك فقال: والله إن حربه للينة ما لها سطوة ولا سورة كسورات الحروب من غيره.
ثم إن عمراً سار إلى الإسكندرية، وكان من بين الإسكندرية والفسطاط من الروم والقبط قد تجمعوا له وقالوا: نغزوه قبل أن يغزونا ويروم الإسكندرية. فالتقوا واقتتلوا، فهزمهم وقتل منهم مقتلة عظيمة، وسار حتى بلغ الإسكندرية، فوجد أهلها معدين لقتاله. فأرسل المقوقس إلى عمرو يسأله الهدنة إلى مدة، فلم يجبه إلى ذلك وقال: لقد لقينا ملككم الأكبر هرقل فكان منه ما بلغكم. فقال المقوقس لأصحابه: صدق فنحن أولى بالإذعان. فأغلظوا له في القول وامتنعوا، فقاتلهم المسلمون وحصروهم ثلاثة أشهر، وفتحها عمرو عنوةً وغنم ما فيها وجعلهم ذمةً.
وقيل: إن المقوقس صالح عمراً على اثني عشر ألف دينار على أن يخرج من الإسكندرية من أراد الخروج ويقيم من أراد القيام وعلى أن يفرض على كل حالم من القبط دينارين، وجعل فيها عمرو جنداً.
ولما فتحت مصر غزوا النوبة فرجع المسلمون بالجراحات وذهاب الحدق لجودة رميهم، فسموهم رماة الحدق.
فلما ولي عبد الله بن سعد بن أبي سرح مصر أيام عثمان صالحهم على هدية عدة رؤوس في كل سنة يؤدونهم إلى المسلمين، ويهدي إليهم المسلمون كل سنة طعاماً مسمى وكسوة، وأمضى ذلك الصلح عثمان ومن بعده من ولاة الأمور.
وقيل: إن المسلمين لما انتهوا إلى بلهيب وقد بلغت سباياهم إلى اليمن أرسل صاحبهم إلى عمرو: إنني كنت أخرج الجزية إلى من هو أبغض إلي منكم: فارس والروم، فإن أحببت الجزية على أن ترد ما سبيتم من أرضي فعلت. فكتب عمرو إلى عمر يستأذنه في ذلك، ورفعوا الحرب إلى أن يرد كتاب عمر. فورد الجواب من عمر: لعمري جزية قائمة أحب إلينا من غنيمة تقسم ثم كأنها لم تكن، وأما السبي فإن أعطاك ملكهم الجزية على أن تخيروا من في أيديكم منهم بين الإسلام ودين قومه فمن اختار الإسلام فهو من المسلمين ومن اختار دين قومه فضع عليه الجزية، وأما من تفرق في البلدان فإنا لا نقدر على ردهم. فعرض عمرو ذلك على صاحب الإسكندرية، فأجاب إليه، فجموا السبي واجتمعت النصارى وخيروهم واحداً واحداً، فمن اختار المسلمين كبروا، ومن اختار النصارى نخروا وصار عليه جزية حتى فرغوا.
وكان من السبي أبو مريم عبد الله بن عبد الرحمن، فاختار الإسلام وصار عريف زبيد. وكان ملوك بني أمية يقولون: إن مصر دخلت عنوةً وأهلها عبيدنا نزيد عليهم كيف شئنا. ولم يكن كذلك.

.ذكر عدة حوداث:

وفي هذه السنة، أعني سنة عشرين، غزا أبو بحرية عبد الله بن قيس أرض الروم، وهو أول من دخلها فيما قيل، وقيل: أول من دخلها ميسرة بن مسروق العبسي فسبى وغنم. وقيل: فيها عزل عمر قدامة بن مظعون من البحرين وحده في شرب الخمر واستعمل أبا بكرة على البحرين واليمامة. وفيها تزوج عمر فاطمة بنت الوليد أم عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. وفيها عزل عمر سعد بن أبي وقاص عن الكوفة لشكايتهم إياه وقالوا: لا يحسن يصلي. وفيها قسم عمر خيبر بين المسلمين وأجلى اليهود عنها وقسم وادي القرى. وفيها أجلى يهود نجران إلى الكوفة. وفيها بعث عمر علقمة بن مجزز المدلجي إلى الحبشة، وكانت تطرقت بلاد الإسلام فأصيب المسلمون، فجعل عمر على نفسه أن لا يحمل في البحر أحداً أبداً، يعني للغزو، وقيل سنة إحدى وثلاثين.
مجزز بجيم وزايين الأولى مكسورة مشددة.
وفيها مات أسيد بن حضير في شعبان؛ أسيد تصغير أسد. وحضير بالحاء المهملة المضمومة، والضاد المفتوحة، والراء. وفيها مات هرقل وملك قسطنطين. وفيها ماتت زينب بنت جحش ونزل في قبرها أسامة بن زيد وابن أخيها محمد بن عبد الله بن جحش.
وحج بالناس عمر. وكان عماله على الأمصار من كان قبل هذه السنة إلا من ذكرت أنه عزله. وكان قضاته فيها القضاة في السنة قبلها.
وفيها مات عياض بن غنم، وهو الذي فتح الجزيرة، وهو أول من أجاز الدرب إلى الروم. وفيها مات بلال بن رباح مؤذن النبي، صلى الله عليه وسلم، بدمشق، وقيل بحلب. وفيها مات أنيس بن مرثد بن أبي مرثد الغنوي، وله ولأبيه ولجده صحبة، وقتل أبوه في غزوة الرجيع. وفيها مات سعيد بن عامر بن حذيم الجمحي، شهد فتح خيبر، وكان فاضلاً، وكان على حمص حتى مات، وقيل: مات سنة تسع عشرة، وقيل: سنة إحدى وعشرين وعمره أربعون سنة. وفيها مات أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب. وفيها ماتت صفية بنت عبد المطلب عمة النبي، صلى الله عليه وسلم. وفيها قتل المظهر بن رافع الأنصاري، قدم من الشام ومعه من علوج الشام، فلما كان بخيبر أمرهم قومٌ من اليهود فقتلوهم، فأجلاهم عمر.
المظهر بضم الميم، وفتح الظاء المعجمة، وتشديد الهاء، وآخره راء مهملة. ثم دخلت:

.سنة إحدى وعشرين:

.ذكر وقعة نهاوند:

قيل: فيها كانت وقعة نهاوند، وقيل: كانت سنة ثماني عشرة، وقيل سنة تسع عشرة.
وكان الذي هيج أمر نهاوند أن المسلمين ما خلصوا جند العلاء من بلاد فارس وفتحوا الأهواز كاتبت الفرس ملكهم وهو بمرو فحركوه، وكاتب الملوك بين الباب والسند وخراسان وحلوان، فتحركوا وتكاتبوا واجتمعوا إلى نهاوند، ولما وصلها أوائلهم بلغ سعداً الخبر، فكت إلى عمر، وثار بسعدٍ قومٌ سعوا به وألبوا عليه، ولم يشغلهم ما نزل بالناس؛ وكان ممن تحرك في أمره الجراح بن سنان الأسدي في نفر. فقال لهم عمر إن الدليل على ما عندكم من الشر نهوضكم في هذا الأمر وقد استعد لكم من استعد: والله ما يمنعني ما نزل بكم من النظر فيما لديكم. فبعث عمر محمد بن مسلمة والناس في الاستعداد للفرس، وكان محمد صاحب العمال يقتص آثار من شكا زمان عمر، فطاف بسعدٍ على أهل الكوفة يسأل عنه، فما سأل عنه جماعةً إلا أثنوا عليه خيراً سوى من مالأ الجراح الأسدي، فإنهم سكتوا ولم يقولوا سوءاً ولا يسوغ لهم ويتعمدون ترك الثناء، حتى انتهى إلى بني عبس فسألهم، فقال أسامة بن قتادة: اللهم إنه لا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية، ولا يغزو في السرية. فقال سعد: اللهم إن كان قالها رياءً وكذباً وسمعة فأعم بصره، وأكثر عياله، وعرضه لمضلات الفتن. فعمي، واجتمع عنده عشر بنات، وكان يسمع بالمرأة فيأتيها حتى يحبسها، فإذا عثر عليه قال: دعوة سعد الرجل المبارك. ثم دعا سعد على أولئك النفر فقال: اللهم إن كانوا خرجوا أشراً وبطراً ورياء فاجهد بلادهم. فجهدوا، وقطع الجراح بالسيوف يوم بادر الحسن بن علي، رضي الله عنه، ليغتاله بساباط، وشدخ قبيصة بالحجارة، وقتل أربد بالوجء ونعال السيوف.
وقال سعد: إني أول رجلٍ أهراق دماً من المشركين، ولقد جمع لي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أبويه وما جمعهما لأحدٍ قبلي، ولقد رأيتني خمس الإسلام، وبنو أسد تزعم أني لا أحسن أصلي وأن الصيد يلهيني.
وخرج محمد بسعد وبهم معه إلى المدينة فقدموا على عمر فأخبروه الخبر فقال: كيف تصلي يا سعد؟ قال: أطيل الأوليين وأحذف الأخريين. فقال: هكذا الظن بك يا أبا إسحاق ولولا الاحتياط لكان سبيلهم بيناً. وقال: من خليفتك يا سعد على الكوفة؟ فقال: عبد الله بن عبد الله بن عتبان. فأقره. فكان سبب نهاوند وبعثها زمن سعد.
وأما الوقعة فهي زمن عبد الله، فنفرت الأعاجم بكتاب يزدجرد فاجتمعوا بنهاوند على الفيرزان في خمسين ألفاً ومائة ألف مقاتل، وكان سعد كتب إلى عمر بالخبر ثم شافهه به لما قدم عليه وقال له: إن أهل الكوفة يستأذنونك في الانسياح وأن يبدؤوهم بالشدة ليكون أهيب لهم على عدوهم.
فجمع عمر الناس واستشارهم، وقال لهم: هذا يوم له ما بعده، وقد هممت أن أسير فيمن قبلي ومن قدرت عليه فأنزل منزلاً وسطاً بين هذين المصرين ثم أستنفرهم وأكون لهم ردءاً حتى يفتح الله عليهم ويقضي ما أحب، فإن فتح الله عليهم صبيتهم في بلدانهم.
فقال طلحة بن عبيد الله: يا أمير المؤمنين قد أحكمتك الأمور، وعجمتك البلابل، واحتنكتك التجارب، وأنت وشأنك ورأيك، لا ننبو في يديك ولا نكل عليك، إليه هذا الأمر، فمرنا نطع وادعنا نجب واحملنا نركب وقدنا ننقد، فإنك ولي هذا الأمر، وقد بلوت وجربت واحتربت فلم ينكشف شيء من عواقب قضاء الله لك إلا عن خيارهم. ثم جلس.
فعاد عمر، فقام عثمان فقال: أرى يا أمير المؤمنين أن تكتب إلى أهل الشام فيسيروا من شامهم، وإلى أهل اليمن فيسيروا من يمنهم، ثم تسير أنت بأهل الحرمين إلى الكوفة والبصرة فتلقى جمع المشركين بجمع المسلمين، فإنك إذا سرت قل عندك ما قد تكاثر من عدد القوم وكنت أعز عزاً وأكثر. يا أمير المؤمنين، إنك لا تستبقي بعد نفسك من العرب باقية، ولا تمتع من الدنيا بعزيز، ولا تلوذ منها بحريز. إن هذا يوم له ما بعده من الأيام، فاشهده برأيك وأعوانك ولا تغب عنه. وجلس.
فعاد عمر فقام إليه علي بن أبي طالب فقال: أما بعد يا أمير المؤمنين فإنك إن أشخصت أهل الشام من شامهم سارت الروم إلى ذراريهم، وإن أشخصت أهل اليمن من يمنهم سارت الحبشة إلى ذراريهم، وإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها حتى يكون ما تدع وراءك أهم إليك مما بين يديك من العورات والغيالات، أقرر هؤلاء في أمصارهم واكتب إلى أهل البصرة فليتفرقوا ثلاث فرق: فرقة في حرمهم وذراريهم، وفرقة في أهل عهدهم حتى لا ينتقضوا، ولتسر فرقةٌ إلى إخوانهم بالكوفة مدداً لهم؛ إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً قالوا: هذا أمير المؤمنين أمير العرب وأصلها، فكان ذلك أشد لكلبهم عليك. وأما ما ذكرت من مسير القوم فإن الله هو أكره لمسيرهم منك وهو أقدر على تغيير ما يكره، وأما عددهم فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة ولكن بالنصر.
فقال عمر: هذا هو الرأي، كنت أحب أن أتابع عليه، فأشيروا علي برجل أوليه ذلك الثغر.
وقيل: إن طلحة وعثمان وغيرهما اشاروا عليه بالمقام. والله أعلم.
فلما قال عمر: أشيروا علي برجل أوليه ذلك الثغر وليكن عراقياً، قالوا: أنت أعلم بجندك وقد وفدوا عليك ورأيتهم وكلمتهم. فقال: والله لأولين أمرهم رجلاً يكون أول الأسنة إذا لقيها غداً. فقيل: من هو؟ فقال: هو النعمان بن مقرن المزني. فقالوا: هو لها.
وكان النعمان يومئذ معه جمعٌ من أهل الكوفة قد اقتحموا جنديسابور والسوس. فكتب إليه عمر يأمره بالمسير إلى ماه لتجتمع الجيوش عليه، فإذا اجتمعوا إليه سار بهم إلى الفيرزان ومن معه. وقيل بل كان النعمان بكسكر. فكتب إلى عمر يسأله أن يعزله ويبعثه إلى جيش من المسلمين. فكتب إليه عمر يأمره بنهاوند، فسار.
فكتب عمر إلى عبد الله بن عبد الله بن عتبان ليستنفر الناس مع النعمان كذا وكاذ ويجتمعوا عليه بماه. فندب الناس، فكان أسرعهم إلى ذلك الروادف ليبلوا في الدين وليدركوا حظاً.
فخرج الناس منها وعليهم حذيفة بن اليمان ومعه نعيم بن مقرن حتى قدموا على النعمان، وتقدم عمر إلى الجند الذين كانوا بالأهواز ليشغلوا فارساً عن المسلمين وعليهم المقترب الأسود بن ربيعة وحرملة بن مريطة ووزر بن كليب، فأقاموا بتخوم أصبهان وفارس وقطعوا أمداد فارس عن أهل نهاوند، واجتمع الناس على النعمان وفيهم حذيفة بن اليمان وابن عمر وجرير بن عبد الله البجلي والمغيرة ابن شعبة وغيرهم، فأرسل النعمان طليحة بن خويلد وعمرو بن معد يكرب وعمرو ابن ثني، وهو ابن أبي سلمى، ليأتوه بخبرهم. وخرجوا وساروا يوماً إلى الليل، فرجع إليه عمرو بن ثني، فقالوا: ما رجعك؟ فقال: لم أكن في أرض العجم، وقتلت أرضٌ جاهلها وقتل أرضاً عالمها. ومضى طليحة وعمرو ابن معد يكرب. فلما كان آخر الليل رجع عمرو، فقالوا: ما رجعك؟ قال: سرنا يوماً وليلةً ولم نر شيئاً وخفت أن يؤخذ علينا الطريق فرجعت. ومضى طليحة ولم يحفل بهما حتى انتهى إلى نهاوند. وبين موضع المسلمين الذي هم به ونهاوند بضعة وعشرون فرسخاً. فقال الناس: ارتد طليحة الثانية. فعلم كلام القوم ورجع. فلما رأوه كبروا. فقال: ما شأنكم؟ فأعلموه بالذي خافوا عليه. فقال: والله لو لم يكن دين إلا العربي ما كنت لأجزر العجم الطماطم هذه العرب العاربة. فأعلم النعمان أنه ليس بينهم وبين نهاوند شيء يكرهه ولا أحد.
فرحل النعمان وعبى أصحابه، وهم ثلاثون ألفاً، فجعل على مقدمته نعيم ابن مقرن وعلى مجنبتيه حذيفة بن اليمان وسويد بن مقرن، وعلى المجردة القعقاع بن عمرو، وعلى الساقة مجاشع بن مسعود. وقد توافت إليه أمداد المدينة فيهم المغيرة بن شعبة، فانتهوا إلى إسبيذهان والفرس وقوف على تعبيتهم، وأميرهم الفيرزان وعلى مجنبتيه الزردق وبهمن جاذويه الذي جعل مكان ذي الحاجب. وقد توافى إليهم الأمداد بنهاوند كل من غاب عن القادسية ليسوا بدونهم، فلما رآهم النعمان كبر وكبر معه الناس فتزلزلت الأعاجم وحطت العرب الأثقال وضرب فسطاط النعمان، فابتدر أشراف الكوفة فضربوه، منهم: حذيفة بن اليمان، وعقبة بن عامر، والمغيرة بن شعبة، وبشير ابن الخصاصية، وحنظلة الكاتب، وجرير بن عبد الله البجلي، والأشعث ابن قيس، وسعيد بن قيس الهمداني، ووائل بن حجر وغيرهم. فلم ير بناء فسطاط بالعراق كهؤلاء.
وأنشب النعمان القتال بعد حط الأثقال، فاقتتلوا يوم الأربعاء ويوم الخميس والحرب بينهم سجالٌ وإنهم انجحروا في خنادقهم يوم الجمعة، وحصرهم المسلمون وأقاموا عليهم ما شاء الله، والفرس بالخيار لا يخرجون إلا إذا أرادوا الخروج، فخاف المسلمون أن يطول أمرهم، حتى إذا كان ذات يوم في جمعة من الجمع تجمع أهل الرأي من المسلمين وقالوا: نراهم علينا بالخيار. وأتوا النعمان في ذلك فوافوه وهو يروي في الذي رووا فيه فأخبروه، فبعث إلى من بقي من أهل النجدات والرأي فأحضرهم، فتكلم النعمان فقال: قد ترون المشركين واعتصامهم بخنادقهم ومدنهم وأنهم لا يخرجون إلينا إلا إذا شاؤوا ولا يقدر المسلمون على إخراجهم، وقد ترون الذي فيه المسلمون من التضايق، فما الرأي الذي به نستخرجهم إلى المناجزة وترك التطويل؟.
فتكلم عمرو بن ثني، وكان أكبر الناس، وكانوا يتكلمون على الأسنان، فقال: التحصن عليهم أشد من المطاولة عليكم فدعهم وقاتل من أتاك منهم. فردوا عليه رأيه.
وتكلم عمرو بن معد يكرب فقال: ناهدهم وكابرهم ولا تخفهم، فردوا جميعاً عليه رأيه وقالوا: إنما يناطح بنا الجدران وهي أعوان علينا.
وقال طليحة: أرى أن نبعث خيلاً لينشبوا القتال فإذا اختلطوا بهم رجعوا إلينا استطراداً فإنا لم نستطرد لهم في طول ما قاتلناهم، فإذا رأوا ذلك طمعوا وخرجوا فقاتلناهم حتى يقضي الله فيهم وفينا ما أحب.
فأمر النعمان القعقاع بن عمرو، وكان على المجردة، فأنشب القتال، فأخرجهم من خنادقهم كأنهم جبال حديد قد تواثقوا أن لا يفروا، وقد قرن بعضهم بعضاً كل سبعة في قران وألقوا حسك الحديد خلفهم لئلا ينهزموا. فلما خرجوا نكص ثم نكص واغتنمها الأعاجم ففعلوا كما ظن طليحة وقالوا: هي هي، فلم يبق أحد إلا من يقوم على الأبواب وركبوهم. ولحق القعقاع بالناس، وانقطع الفرس عن حصنهم بعض الانقطاع والمسلمون على تعبية في يوم جمعة صدر النهار، وقد عهد النعمان إلى الناس عهده وأمرهم أن يلزموا الأرض ولا يقاتلوا حتى يأذن لهم، ففعلوا واستتروا بالحجف من الرمي، واقبل المشركون عليهم يرمونهم حتى أفشوا فيهم الجراح.
وشكا بعض الناس وقالوا للنعمان: ألا ترى ما نحن فيه فما تنتظر بهم؟ ائذن للناس في قتالهم. فقال: رويداً رويداً. وانتظر النعمان بالقتال أحب الساعات كانت إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يلقى العدو فيها وذلك عند الزوال، فلما كان قريباً من تلك الساعة ركب فرسه وسار في الناس ووقف على كل راية يذكرهم ويحرضهم ويمنيهم الظفر، وقال لم: إني مكبر ثلاثاً فإذا كبرت الثالثة فإني حامل فاحملوا، وإن قتلت فالأمير بعدي حذيفة، فإن قتل ففلان، حتى عد سبعة آخرهم المغيرة. ثم قال: اللهم أعزز دينك، وانصر عبادك، واجعل النعمان أول شهيد اليوم على إعزاز دينك ونصر عبادك.
وقيل: بل قال: اللهم إني أسألك أن تقر عيني اليوم بفتح يكون فيه عز الإسلام واقبضني شهيداً. فبكى الناس. ورجع إلى موقفه فكبر ثلاثاً والناس سامعون مطيعون مستعدون للقتال، وحمل النعمان والناس معه وانقضت رايته انقضاض العقاب والنعمان معلم ببياض القباء والقلنسوة، فاقتتلوا قتالاً شديداً لم يسمع السامعون بوقعة كانت أشد منها، وما كان يسمع إلا وقع الحديد، وصبر لهم المسلمون صبراً عظيماً، وانهزم الأعاجم وقتل منهم ما بين الزوال والإعتام ما طبق أرض المعركة دماً يزلق الناس والدواب.
فلما أقر الله عين النعمان بالفتح استجاب له فقتل شهيداً، زلق به فرسه فصرع. وقيل: بل رمي بسهم في خاصرته فقتله، فسجاه أخوه نعيم بثوب، وأخذ الراية قبل أن تقع وناولها حذيفة، فأخذها وتقدم إلى موضع النعمان وترك نعيماً مكانه. وقال لهم المغيرة: اكتموا مصاب أميركم حتى ننتظر ما يصنع الله فينا وفيهم لئلا يهن الناس. فاقتتلوا. فلما أظلم الليل عليهم انهزم المشركون وذهبوا ولزمهم المسلمون وعمي عليهم قصدهم فتركوه وأخذوا نحو اللهب الذي كانوا دونه بأسبيذهان فوقعوا فيه، فكان الواحد منهم يقع فيقع عليه ستة بعضهم على بعضهم في قياد واحد فيقتلون جميعاً، وجعل يعقرهم حسك الحديد، فمات منهم في اللهب مائة ألف أو يزيدون سوى من قتل في المعركة.
وقيل: قتل في اللهب ثمانون ألفاً وفي المعركة ثلاثون ألفاً سوى من قتل في الطلب، ولم يفلت إلا الشريد، ونجا الفيرزان من بين الصرعى فهرب نحو همذان، فاتبعه نعيم بن مقرن، وقدم القعقاع قدامه فأدركه بثنية همذان، وهي إذ ذاك مشحونة من بغال وحمير موقرة عسلاً، فحبسه الدواب على أجله. فلما لم يجد طريقاً نزل عن دابته وصعد في الجبل، فتبعه القعقاع راجلاً فأدركه فقتله المسلمون على الثنية وقالوا: إن لله جنوداً من عسل. واستاقوا العسل وما معه من الأحمال. وسميت الثنية ثنية العسل.
ودخل المشركون همذان والمسلمون في آثارهم فنزلوا عليها وأخذوا ما حولها. فلما رأى ذلك خسروشنوم استأمنهم، ولما تم الظفر للمسلمين جعلوا يسألون عن أميرهم النعمان بن مقرن، فقال لهم أخوه معقل: هذا أميركم قد أقر الله عينه بالفتح وختم له بالشهادة فاتبعوا حذيفة.
ودخل المسلمون نهاوند يوم الوقعة بعد الهزيمة واحتووا ما فيها من الأمتعة وغيرها وما حولها من الأسلاب والأثاث وجمعوا إلى صاحب الأقباض السائب ابن الأقرع. وانتظر من بنهاوند ما يأتيهم من إخوانهم الذين على همذان مع القعقاع ونعيم، فأتاهم الهربذ صاحب بيت النار على أمان، فأبلغ حذيفة، فقال: أتؤمنني ومن شئت على أن أخرج لك ذخيرةً لكسرى تركت عندي لنوائب الزمان؟ قال: نعم. فأحضر جوهراً نفيساً في سفطين، فأرسلهما مع الأخماس إلى عمر. وكان حذيفة قد نفل منها وأرسل الباقي مع السائب ابن الأقرع الثقفي، وكان كاتباً حاسباً، أرسله عمر إليهم وقال له: إن فتح الله عليكم فاقسم على المسلمين فيئهم وخذ الخمس، وإن هلك هذا الجيش فاذهب فبطن الأرض خيرٌ من ظهرها.
قال السائب: فلما فتح الله على المسلمين وأحضر الفارسي السفطين اللذين أودعهما عنده النخير جان فإذا فيهما اللؤلؤ والزبرجد والياقوت، فلما فرغت من القسمة احتملتهما معي وقدمت على عمر، وكان قد قدر الوقعة فبات يتململ ويخرج ويتوقع الأخبار، فبينما رجل من المسلمين قد خرج في بعض حوائجه فرجع إلى المدينة ليلاً، فمر به راكب فسأله: من أين أقبل؟ فقال: من نهاوند، وأخبره بالفتح وقتل النعمان، فلما أصبح الرجل تحدث بهذا بعد ثلاث من الوقعة، فبلغ الخبر عمر فسأله فأخبره، فقال ذلك بريد الجن.
ثم قدم البريد بعد ذلك فأخبره بما يسره ولم يخبره بقتل النعمان: قال السائب: فخرج عمر من الغد يتوقع الأخبار. قال: فأتيته فقال: ما وراءك؟ فقلت: خيراً يا أمير المؤمنين. فتح الله عليك وأعظم الفتح، واستشهد النعمان بن مقرن. فقال عمر: إنا لله وإنا إليه راجعون. ثم بكى فنشج حتى بانت فروع كتفيه فوق كتده. قال: فلما رأيت ذلك وما لقي قلت: يا أمير المؤمنين ما أصيب بعده رجل يعرف وجهه. فقال: أولئك المستضعفون من المسلمين ولكن الذي أكرمهم بالشهادة يعرف وجوههم وأنسابهم، وما يصنع أولئك بمعرفة عمر! ثم أخبرته بالسفطين فقال: أدخلهما بيت المال حتى ننظر في شأنهما والحق بجندك. قال: ففعلت وخرجت سريعاً إلى الكوفة.
وبات عمر، فلما أصبح بعث في أثري رسولاً فما أدركني حتى دخلت الكوفة فأنخت بعيري وأناخ بعيره على عرقوبي بعيري فقال: الحق بأمير المؤمنين، فقد بعثني في طلبك فلم أقدر عليك إلا الآن. قال: فركبت معه فقدمت على عمر، فلما رآني قال: إلي وما لي وللسائب! قلت: ولماذا؟ قال: ويحك والله ما هو إلا أن نمت الليلة التي خرجت فيها فباتت الملائكة تستحبني إلى ذينك السفطين يشتعلان ناراً فيقولون: لنكوينك بهما، فأقول: إني سأقسمهما بين المسلمين. فخذهما عني فبعهما في أعطية المسلمين وأرزاقهم. قال: فخرجت بهما فوضعتهما في مسجد الكوفة، فابتاعهما مني عمرو بن حريث المخزومي بألفي ألف درهم، ثم خرج بهما إلى أرض الأعاجم فباعهما بأربعة آلاف ألف، فما زال أكثر أهل الكوفة مالاً ثم قسم ثمنهما بين الغانمين فنال كل فارس أربعة آلاف درهم من ثمن السفطين. وكان سهم الفارس بنهاوند ستة آلاف وسهم الراجل ألفين. وقد نفل حذيفة من الأخماس من شاء من أهل البلاء يوم نهاوند وكان المسلمون ثلاثين ألفاً.
ولما قدم سبي نهاوند المدينة جعل أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة لا يلقى منهم صغيراً إلا مسح رأسه وبكى وقال له: أكل عمر كبدي! وكان من نهاوند فأسرته الروم وأسره المسلمون من الروم فنسب إلى حيث سبي.
وكان المسلمون يسمون فتح نهاوند فتح الفتوح لأنه لم يكن للفرس بعده اجتماع. وملك المسلمون بلادهم.